4 / 04 / 2006 * تعذيب النساء في السجون السورية (3) إعداد الدكتور خالد الاحمد - كاتب سوري في المنفى الشعب كله متهم في سوريا، رجاله ونساؤه، أطفاله وشيوخه، كلهم متهمون، يجب أن يسحقوا، وأن تملأ بهم السجون والمعتقلات، ويذبحوا ويتسلى بهم الساديون، أزلام النظام الأسدي، الذين نفخ فيهم أسد الحقد الطائفي، وسخرهم لذبح المواطنين رجالاً ونساء، من جميع الفئات، والأعمار والأجناس.. قدم لنا الأخ محمد سليم حماد (يحفظه الله، وجعل ذلك في صفحات أعماله الصالحة يوم القيامة)، قدم لنا كتاب (تدمر، شاهد ومشهود) بين فيها صفحة من صفحات التعذيب الذي صبه أزلام النظام الأسدي على رجال سوريا الأحرار، على خيرة أبناء الشعب السوري وتذكر لنا هذه المرة (هبة الدباغ) يحفظها الله في كتابها (خمس دقائق فقط: تسع سنوات في سجون الأسد)، هبة الدباغ، الوحيدة التي بقيت من أسرتها الحموية، التي أبادوها بكاملها في عام (1982)، ونجت هي لأنها فس السجن، وشقيقها (صفوان) لأنه خارج سوريا.. وقتل أزلام الأسد حوالي (عشرة) من أفراد أسرتها، من الأب إلى الأم، إلى الأطفال الصغار، والبنات الصغيرات، في مجزرة حماة الكبرى (1982) التي عجز المغول والتتار والصليبيون والفرنسيون على أن يفعلوا مثلها.. فلنسمع ماتقوله هبة الدباغ (واسأل الله أن يجعله في صحائف أعمالها يوم القيامة).. فقد قدمت وثائق نادرة وحقيقية ضد نظام القتلة الأسدي.. تقول هبة الدباغ: قن الدجاج (أو المنفردة)! أمسكني حسين من كتفي وأنزلني الدرجات الخمس إلى أسفل، واقتادني من جديد عبر الممر المعتم إلى ثاني زنزانة منفردة في ممر آخر لا يكاد يبدو آخره، وقال وهو يشير إلى الداخل -هذا مكانك.. غرفتك العامرة.. وان شاء الله نومة هنية! أحسست بالنفور من الظلمة ووحشة المكان وكنت لا أزال متوترة الأعصاب جدا فقلت بلا وعي: - لا والله.. لا أدخلها أبدا! قال وهو يدفعني إلى الزنزانة بغلظة: -إي بدك تدخلي بكسر رأسك. التفت إلى أبواب الغرف الأخرى فلمحت صديقاتي زميلات السكن معي يطللن بوجوههن من طاقات الزنازين التي وزعوهن عليها، فركضت نحوهن وأنا أصيح: فاطمة.. فلانة.. فجذبني بقوة وهو يقول: تعالي.. تعالي.. هل تظنين نفسك في فندق أو في زيارة! وفجأة سمعت من آخر الزنازين (رقم 24) صوت أمي التي يبدو أنها سمعت صوتي أيضا فبدأت تدعو عليهم بصوت عال وتصيح: -هؤلاء حريمات تتقوون عليهن يا ظلام.. ما عندكم رحمة! والله أنا طول عمري أسمع أنه لا رحمة في قلوبكم ولكنني أرى ذلك الآن بعيني! بهرتني المفاجأة.. وركضت ثانية باتجاه مصدر الصوت وأنا أصيح بدوري: - أمي هنا؟ الله يخرب بيتكم.. ماذا تفعلون بها؟ إخوتي صغار وأبي مريض.. ولا حول جميعا لهم ولا قوة. فناداني حسين وهو يقهقه بسخرية: -وما حاجتنا لأبيك وإخوتك؟ نحن نريد أمك فقط! وذهب فأغلق نوافذ المنفردات جميعا ثم عاد يدفعني إلى المنفردة وأنا أحاول المقاومة وأتكىء على زاوية الباب، فقال لي مهددا: -إذا لم تدخلي الان فسأحضر كل عناصر الفرع ليدخلوك. قلت: المكان معتم جدا! أجاب بسخرية: أنت الآن ستنورينه.. هيا ادخلي. نظرت فإذا بعلبتين من الصفيح في زاوية الزنزانة واحدة فيها خبيص من أرز أو برغل مع مرق وفي الثانية ماء.. قلت له: والله هذا مثل قن الدجاج.. وهذه والله مثل معاملة الحيوانات! قال: هذا عشاؤك الليلة. فدخلت المنفردة وصوت أمي لا يزال يبلغ مسمعي.. ثم لم يلبث صوتها أن غاب وسط قهقهات العناصر وصياحهم وهذرهم، وعمت المكان رائحة الخمر وصيحات المجون احتفالا بليلة رأس السنة إ! فيما لفتني في وحدتي الظلمة ووحشة المكان فازدادت أعصابي توترا ولم أستطع حتى أن أغير جلستي، خاصة وأنهم أخذوا ماجدة بعدي إلى التحقيق وكان من الممكن أنها تعذب في تلك الساعة مثلما كان محتملا أن تقول عني أي شيء. وبقيت على هذا الحال إلى ما بعد منتصف الليل، حينما حضر أحد العناصر واقتادني إلى غرفة التحقيق من جديد. لون الليمون! في غرفة التحقيق وجدت الرائد ثلجة في انتظاري يستقبلني قائلا: - لست من الإخوان أليس كذلك؟ ولم تقومي بأي عمل لهم ولا تريدين الإعتراف.. ولكن هناك من أرسله الله ليعترف عليك الليلة. هذه رفيقتك - يقصد ماجدة - قالت بأنك مسلحة وأنها رأت السلاخ معك بعينها. قلت له بتحد: أحضرها لأفقأ لها عينها.. هيا أحضرها لتقول ذلك أمامى. قال: هي لا تكذب، أنا قلت لك هي لا تكذب.. هي أصدق منك، والدليل على كذبك لونك الذي أصبح أصفر مثل الليمون. قلت له: لي ليلتان كاملتان لم أنم ولم آكل ولم أدخل الحمام مع القتل والتعذيب ولعيان القلب، فكيف لا يصفر لوني! هز برأسه وهو يمط شفتيه بلا معنى وصاح للحاجب كي يعيدني للمنفردة، فعدت إلى جلستي القلقة ذاتها وعاد إلي التوتر والأرق، حتى أنني لم أمد البطانيات خوف أن يأتي أحد العناصر فيفتح نافذة الباب أو يدخل علي وأنا نائمة.. وبينما أنا متكورة على نفسي وسط الزنزانة أرمق الصراصير في تلك الظلمة تتسلق الجدران حولي دونما اكتراث بالنزيل الجديد.. شق جدار السكون فجأة صوت مزلاج الباب الخارجي وصياح السجانين وتدافع أقدام تتخبط مهرولة فوق الدرجات وعلى الممر باتجاه منفردة قريبة. أدركت بحدسي أن دفعة من المعتقلين الجدد قد وصلت، وعلمت لاحقا أنهم ستة أو سبعة شباب بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر جمعوهم من مسجد واحد وحشروهم معا في هذه المنفردة التي لا تزيد بمساحتها عن متر بمتر ونصف! والذي يبدو أن واحدا منهم أصابه إسهال من الخوف أو التعذيب فجعل يصيح طالبا الخروج إلى الحمام، فلا يجيبه إلا صوت العناصر الغارقين في متعة الإحتفال برأس السنة: -سد حلقك! لكن الفتى لم يكن يستطيع الصبر، فيعيد الرجاء وينادي: -والله بطني بتوجعني.. يا عالم.. لم أعد أستطيع ضبط نفسي.. عندها جاءه عنصر منهم وفتح النافذة وتناوله بضربة بالكبل وهو يكرر-سد حلقك واخرس يا.. وسكت الفتى لبرهة يا حرام، بدأنا نشم بعدها رائحة من زنزانتهم خنقتنا.. فعاد العنصرإليه يكفر ويلعن ويقول له: -فعلتها هنا يا ابن ال.. وأخرجه إلى الممر وانهال عليه ضربا كالمجنون، وتعالى صراخ أمي من منفردتها ثانية تدعو عليهم وتقول له: -يخرب بيتك.. مالك قلب بشر؟ سألك أن تخرجه فلم تفعل ففعلها تحته.. ماذا يفعل المسكين بنفسه؟ وعاد الأمر بعد هذه المهزلة إلى ما يشبه الهدوء من جديد.. ومضت ساعات الليل المتبقية تمر علي أثقل من الجبال، وعلى الرغم من أنني لم يطرق لي النوم جفنا ليلتها إلا أنني بدأت أفقد الإحساس بما حولي، وأتخيل ربما من شدة البرد أن الثلج قد غطى المكان كله، وأن العناصر تستعد لاقتحام الزنزانة علي ليسحبوني في هذا الثلج فيعروني ويعذبوني للمرة الأخيرة قبل أن يرشوني وأغادر الحياة! لكن شيئا من ذلك لم يحدث، ولم ألبث وقد دنا وقت الفجر أن أحسست بما يشبه الطرق الخافت على الجدار من الزنزانة الأخرى المجاورة حيث وضعوا ماجدة، فعلمت أنها تنبهني إلى موعد الصلاة. سألت السجان: - مالي لا أسمع صوتا هنا؟ وهذه صديقتي ملك ألم تنزل من التحقيق؟ قال: خرجوا.. كلهم خرجوا، وما بقي إلا أنت ورفيقتك الثانية - يقصد ماجدة -. قلت بدهشة واضطراب: وأمي؟ قال: أنت ورفيقتك وأمك فقط.. صفوكم! أحسست أنها النهاية وأنها راحت علينا.. خرج الجميع وبقينا نحن.. إذا فهي النهاية! سألته وأنا أشهق بالبكاء: - ولماذا أخرجوهم ولم يخرجونا نحن؟ أنا لم يثبت أي شيء علي.. أنا بريئة. أطرق وهو يقول: والله لا أعلم.. إسأليهم، أنا هنا مجرد موظف. "الخط "ورعاة البقر! طلع صباح أول أيامي في سجن كفر سوسة وأنا لا أزال قابعة أترقب في زنزانتني المجهول بوجل، وأطل على أحداث الأيام التي مضت مصدقة ومكذبة! تلفت أتأمل "مسكني " الجديد فإذا به أشبه بالقبر منه إلى أي شيء اخر، وعدا الصراصير التي كانت لا تزال تبحث بمجساتها المقرفة عن شيء رطب تقتات عليه لم أستطع في البداية أن أجد على الجدار القاتم شيء، لكن تسرب بعض الضوء واعتياد عيناي على الظلمة جعلني أبصر خطوطا مميزة بعض الشيء وشعار "الله أكبر ولله الحمد" محفورة أكثر من مرة وحولها أسماء أشخاص عديدين مروا على هذا المكان التعس قبلي.. وكان ثمة نقش لمسجد كتب حوله "لا إله إلا الله محمد رسول الله " وأسفل منه اسم الشخص الذي نقشه على الأغلب.. كذلك لمحت خريطة لفلسطين وتحتها عبارة "الله أكبر ولله الحمد! لم تكن أكثر من ساعتين على صلاة الفجر قد مضتا حين بدأت دورة يوم جديد من أيام السجن تأخذ مجراها.. فكما الكلاب تفعل كان المحققون والجلادون والسجانون لا ينامون إلا إذا دنا الفجر ويستيقظون وقت الضحى! وسرعان ما بدأت الشتائم واللعنات وعبارات الكفر بالله تختلط بفرقعة الكبلات على ظهور السجناء يقتادونهم إلى الحمامات أو إلى "الخط " بلغة السجن المتداولة. كان (ياسين) المجند العلوي المتطوع أحد أجهل خلق الله وأغباهم يتصدر لهذا العمل على الدوام، فتراه يمسك بالكبل بيده ويتفرس في طابور المعتقلين المتجه نحو الحمامات لبرهة، ثم لا يلبث أن ينقض على المساكين لطما ولسعا يسلخ جلودهم كالدواب.. والويل كل الويل لمن كان يجرؤ ويصيح من الألم.. فجزاء ذلك مضاعفة العذاب حتى لا يعيدها ثانية! ولم تكد تنته هذه المأساة ويهدأ المكان بعض الوقت حتى كان موعد التحقيقات قد جاء، وعاد صراخ المعذبين وصيحات العناصر وشتائم المحققين تقرع اذاننا وتذيب منا القلوب، ثم وكما بدأت بلا مقدمات خفتت الأصوات من جديد، ولم ألبث أن وجدت باب الزنزانة يفتح وأحد العناصر يدعوني للذهاب إلى الحمام، فلما أصبحت هناك وحدي وبدأت الوضوء وكل ظني أنني قد أغلقت الباب بإحكام علي فوجئت بوالدتي أمامي، فأدهشتها المفاجأة مثلما أدهشتني.. واندفعت من فورها تحيطني بذراعيها وتسألنى وهي بادية الإضطراب: - قتلوك؟ عذ بوك؟ قلت أريد أن أخفف المصاب عنها: لا.. أنا بخير. لكنني كنت وقتها أضع رجلي على الحوض وأغسلها للوضوء، فأشارت مفجوعة إليها تقول:ولكن ما هذا؟ رجلك كلها زرقاء وأصابعك مزرقة أيضا ولا تكاد تظهر! هل أذاك أحد؟ هل مسك أحد؟ قلت من جديد: لا.. الحمد لله ما مسني أحد. سألتني وكأننا في سباق مع الزمن: ولماذا أمسكوك إذا؟ قلت: والله لا أعرف.. يريدون أخي صفوان ويريدونني أن أدلهم عليه. فأخبرتني هنا أنها أجابت في التحقيق كما أجبت بأنه يدرس في الباكستان، فشعرت بارتياح لتطابق كلامي مع كلامها. حضر حسين راكضا وهو يصيح بالعنصر الآخر: - كيف جعلتها تدخل والأخرى لا تزال هناك؟ ألا تعلم أن اجتماع أكثر من شخص هناك ممنوع؟ أجاب العنصر الذي أحضر أمي: لم يكن لي علم بوجود أحد آخر.. لماذا أغلقت أنت باب المنفردة التي كانت فيها ولم تتركه مفتوحا لأعلم أنها لا تزال في الخارج؟ واقتاد كلاهما والدتي وهي لا تكف عن إطلاق دعواتها عليهم، ولم تتح لي رؤيتها ثانية إلا بعد أيام، ولم تتح لي معرفة سبب وكيفية اعتقالها إلا حينما اجتمعنا في المهجع بعد انتهاء التحقيق.. فقصت علي - رحمها الل